التعاونيات والحوكمة والأبعاد الجنسانية في ضوء المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والحالة الفلسطينية

يَمتاز العمل التعاوني في فلسطين بتاريخ عريق فقد شهدت الحركة التعاونية الفلسطينية نشاطاً منذ العام 1920، ولعبت دوراً أساسياً في الجوانب الاقتصادية، إضافة لمساهمتها في الحِراك السياسي وخصوصاً للنساء بذلك الوقت. ومع الانتفاضة الأولى عام 1987 دخلت المشاريع المُدرة للدخل للمشهد الوطني الفلسطيني من خلال المبادرات المحلية للجمعيات الخيرية الفلسطينية واللجان النسائية، وكان التركيزُ على المطرّزات والصناعات الغذائية. لم تقتصر أهداف الحركة التعاونية على التمكين الاقتصادي، بل توسّعت أهدافها وتداخلت لتشمل تجنيد النساء في العمل الوطني الفلسطيني والاعتماد على الذات الوطنية الفلسطينية، وتقديم خدمات بديلة لتلك التي تأتي عن طريق الاحتلال، إضافة إلى دورها في مجال دعم أُسر الشهداء والأسرى[1].

ومع إنشاء السلطة الفلسطينية، توسَّع العمل التعاوني في مجالات مختلفة؛ حيث تنشط التعاونيات بشكل أساسي في القطاع الزراعي وقطاع الإسكان، وبشكل أقل في القطاعات الخدماتية والحرفية والاستهلاكية. ورغم عراقة العمل التعاوني في فلسطين المحتلة إلا أن مشاركة النساء في التعاونيات، متواضعة؛ لإشكاليات وعقبات عديدة ومركبة أبرزها الثقافة المجتمعية السائدة والنظرة التقليدية النمطية للمرأة ودورها في المجتمع، وغياب الحساسية والاعتبارات الجنسانية من التشريعات التي تنظم العمل التعاوني في فلسطين، وهيمنة الجهات التنفيذية على العمل التعاوني وتعقيد إجراءات تسجيل التعاونيات، وضعف قيم العمل التعاوني الواردة في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وبخاصة التوصية رقم (193) الصادرة عن مؤتمر العمل الدولي.

يُشكل انضمام دولة فلسطين للاتفاقيات الدولية، فرصة هامة، لتعزيز العمل التعاوني ذي التاريخ العريق في فلسطين، من خلال مراجعة التشريعات الفلسطينية والسياسات العامة والخطط الاستراتيجية القطاعية وعبر القطاعية والممارسات، لضمان انسجامها مع المواثيق الدولية؛ وبخاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والاتفاقية والتوصيات الصادرة عن منظمة العمل الدولية وبخاصة التوصية رقم 193 (تعزيز التعاونيات) وغيرها من الاتفاقيات والمعايير الدولية.

تلعب التعاونيات، كنموذج اقتصادي – اجتماعي، أو يُمكنها أن تلعب، دوراً أكثر فعالية في التحرر من التبعية الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، ودعم وتحسين الانتاج الوطني وبخاصة في المجال الزراعي المرتبط بالهوية الفلسطينية، والحفاظ على الأرض في مواجهة مشاريع الإستيطان ومصادرة الأراضي والتهويد، وتعزيز مشاركة المرأة والشباب والفئات الأقل حظاً في عملية الإنتاج، والتقليل من مشكلات الفقر والبطالة، وتوفير الدخل والتمكين وتعزيز دور ومشاركة المرأة وبخاصة في المناطق الريفية.

 

  1. هدف ومنهجية الدراسة التحليلية

تُسلط هذه الدراسة الضوء على العمل التعاوني ذي التاريخ العريق في فلسطين؛ من حيث الواقع وإشكالياته وبخاصة في مجال "التشريعات الفلسطينية" التي تُنظم العمل التعاوني في دولة فلسطين، والاعتبارات الجنسانية ومبادىء ومتطلبات الحوكمة، ومدى مساهمتها في تعزيز بيئة المساواة بين الجنسين وتعميم منظور النوع الاجتماعي في مجال العمل التعاوني كنموذج اقتصادي – اجتماعي، وتعزيز فرص التمكين الاقتصادي للنساء، وبخاصة المرأة الريفية، وفي الوصول إلى الأرض المرتبطة بالهوية الفلسطينية في الوجدان الفلسطيني، وتحسين ظروفها المعيشية، ودعم الاقتصاد الوطني والتحرر التدريجي من التبعية لاقتصاد الاحتلال، وتعزيز المشاركة الفاعلة والمتكافئة للمرأة وتمكينها في العملية التنموية تحقيقاً لأهداف التنمية المستدامة.

تتناول هذه الورقة على نحو مقتضب تاريخ العمل التعاوني في فلسطين. وتُسلّط الضوء على انتهاكات سلطات الاحتلال التي تستهدف العمل التعاوني المرتبط بالأرض والإنسان. وسياسات السلطة الفلسطينية التي تتسم بــ"الهيمنة"على التعاونيات وتفتقر "للحوكمة" وتغيب عنها "الاعتبارات الجنسانية" من خلال تحليل التشريعات والسياسات الفلسطينية المتعلقة بالعمل التعاوني وإشكالياتها وبخاصة في مجال التمكين الاقتصادي للمرأة ولا سيما النساء المهمشات في الأرياف والنساء ذوات الإعاقة.

أقر مجلس الوزراء الاستراتيجية الوطنية لقطاع التعاون للأعوام 2021 – 2023 التي أعدتها هيئة العمل التعاوني بصفتها قائدة لقطاع التعاون في فلسطين بموجب قرار بقانون الجمعيات التعاونية 2017، وتأتي هذه الاستراتيجية في إطار عملية مراجعة وتحديث للاستراتيجية القطاعية 2017 – 2019 من أجل مأسسة وتعزيز دور وأداء وإنتاج وحوكمة القطاع التعاوني. وتتناول استراتيجية القطاع التعاوني ثلاثة محاور؛ بيئة مؤسساتية وتشريعية مُمَكِّنة للتعاونيات، تعزيز أداء التعاونيات القائمة، والتوسُّع والإنتشار والريادية في العمل التعاوني. وسنرى خلال هذه الدراسة التحليلية أن "الفشل" في مجال "البيئة المؤسساتية والتشريعية" عرقل بشكل واضح تطبيق الاستراتيجية الوطنية "الطموحة" لقطاع التعاون للأعوام 2021-2023.

كما وسنقوم أيضاً خلال هذه الدراسة خلال بتحليل مدى تقاطع أهداف الاستراتيجية الوطنية لقطاع التعاون مع التدخلات السياساتية لأجندة السياسات الوطنية 2017 -2022 (المواطن أولاً) والخطط الاستراتيجية لوزارة العمل ولا سيما الخطة الاستراتيجية الجديدة لقطاع العمل في فلسطين للأعوام (2021 – 2023) المعنونة "الطريق نحو العمل اللائق وتحسين فرص التشغيل" ومدى مراعاتها أيضاً لتمكين هيئة العمل التعاوني مالياً وإدارياً (الكادر الوظيفي) ولوجستياً وتمكين التعاونيات في فلسطين، وللأبعاد والاعتبارات الجنسانية، وتعزيز مشاركة المرأة والفئات الأقل حظاً، وإعمال متطلبات الحَوكمة والشفافية.

وحيث أن دولة فلسطين قد انضمت للعديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان بدون تحفظات؛ فإنَّ هذا التقرير سيقوم بتحليل التشريعات والسياسات العامة والممارسات العملية المتعلقة بالجمعيات التعاونية من منظور الاتفاقيات الدولية؛ ولا سيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) واتفاقيات وتوصيات منظمة العمل الدولية وبخاصة التوصية رقم (193) بشأن تعزيز التعاونيات؛ المرتبط بالتمكين الاقتصادي والمساواة بين الجنسين والحوكمة، علاوة على تعليقات لجان الاتفاقيات الدولية وملاحظاتها الختامية لدولة فلسطين فيما يتعلق بالتقارير الرسمية التي جرى مناقشتها في جنيف، بما يُساهم في تعزيز بيئة العمل التعاوني، من منظور جنساني مُحوكَم، بالاستناد للممارسات الفضلى في هذا المجال.

ولأنَّ مبادىء الحَوكمة تعد جزءاً لا يتجزأ من سيادة القانون في مفهوم الأمم المتحدة، وحيث أن مبدأ سيادة القانون قاعدة دستورية راسخة في قانوننا الأساسي الفلسطيني (الدستور) فإنَّ مبادىء الحوكمة ستكون من ركائز تحليل التشريعات والسياسات والممارسات بهدف تعزيز شفافية وفعالية العمل التعاوني ومرتكزات الحكم الرشيد وفرص التنمية في فلسطين.

تتضمن الورقة البحثية استخلاصات لأهم الإشكاليات والثغرات التي تواجه العمل التعاوني، ولا سيما في مجال التشريعات الفلسطينية "المعادية" للتعاونيات والتي تسعى فيما يبدو إلى "تقويضها" رغم تاريخها العريق في فلسطين. وتسلط الضوء على الأبعاد الجنسانية والحوكمة التي تغيب عن التشريعات التي تنظم عمل التعاونيات، في ظل غياب السياسة العامة للتعاونيات.

وهنا تأتي أهمية توصيات منظمة العمل الدولية وبخاصة التوصية رقم (193) الصادرة عن مؤتمر العمل الدولي والتي شهدت اهتماماً كبيراً بالعمل التعاوني من خلال توصياتها للحكومات وبخاصة في مجال استقلالية العمل التعاوني وعدم الهيمنة عليه ودعمه وتشجيعه والأبعاد الجنسانية وتعميم المنظور الجنساني في التعاونيات وتعزيز مبادىء ومتطلبات الحوكمة والشفافية في الأداء التعاوني وفي العلاقة بين التعاونيات وأهمية دورها في تنمية المجتمع المحلي، على المستوى السياساتي والمستوى التشريعي، وصولاً إلى الاستخلاصات التي تتناول أبرز الإشكاليات في العمل التعاوني والتوصيات المقترحة للنهوض بقطاع التعاونيات في فلسطين على المستوى التشريعي والسياساتي والممارسات العملية (الممارسات الفضلى) وتشكيل نظام مُتكامل وفعّال للعمل التعاوني يقوم على المساواة المتكافئة بين الجنسين، وعلى الدور القيادي للمرأة، وتعزيز الحوكمة، في التعاونيات.

 

 

 

[1]د. نصر عبد الكريم وعبد الله مرار، دليل العاملات والعاملين في التمكين الاقتصادي في فلسطين – وقائع وآفاق العمل التعاوني، جمعية المرأة العاملة الفلسطينية للتنمية PWWSD، كانون الثاني 2020، ص (16) وما بعدها.

There is an attachment
attach_fileAttachment